فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
هذا استفهام بمعنى الجَحْد؛ أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وبدّل كلامه وأضاف شيئًا إليه مما لم ينزله.
وكذلك لا أحد أظلمُ منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب، وقلتم ليس هذا كلامه.
وهذا مما أمِر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم.
وقيل: هو من قول الله ابتداء.
وقيل: المُفْتَرِي المشركُ، والمكذِّب بالآيات أهلُ الكتاب.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون}. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} يعني فزعم أن له شريكًا وولدًا والمعنى: أني لم أفتر على الله كذبًا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله وأنتم قد افترتيم على الله الكذب فزعمتم أن له شريكًا وولدًا والله تعالى منزه عن الشريك والولد وقيل: معناه إن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني من حيث إني أفتريته على الله ولما كان هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ وجب أن يقال ليس أحد في الدنيا أجهل ولا أظلم على نفسه منكم من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله فقد كذبتم بآياته وهو قوله تعالى: {أو كذب بآياته} يعني جحد بكون القرآن من عند الله وأنكر دلائل التوحيد {إنه لا يفلح المجرمون} يعني المشركون وهذا وعيد وتأكيد لما سبق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
تقدم تفسير مثل هذا الكلام، ومساقه هنا باعتبارين: أحدهما: أنه لما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذبًا كما قال: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله، وقد كذبتم بآياته، فلا أحد أظلم منكم.
والاعتبار الثاني: أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي: لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكًا، وأن له ولدًا، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} استفهامٌ إنكاريٌّ معناه الجحدُ أي لا أحدَ أظلمُ منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم، وإن كان سبكُ التركيب مفيدًا لإنكار أن يكون أحدٌ أظلم منه من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها، فإنه إذا قيل: مَنْ أفضلُ من فلان أو لا أعلمَ منه يُفهم منه حتمًا أنه أفضلُ من كل فاضل وأعلمُ من كل عالم، وزيادةُ قوله تعالى: {كَذِبًا} مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضِمْنًا وحملوه عليه الصلاة والسلام صريحًا مع كونه افتراءً على الله تعالى كذبٌ في نفسه، فربّ افتراءٍ يكون كذبُه في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنبُ زيدٍ إلى عمرو، وهذا للمبالغة منه عليه الصلاة والسلام في التفادي عما ذُكر من الافتراء على الله سبحانه: {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} فكفر بها، وهذا تظليمٌ للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملِهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام، والفاءُ لترتيب الكلامِ على ما سبق من بيان كونِ القرآنِ بمشيئته تعالى وأمرِه، فلا مجال لحمل الافتراءِ باتخاذ الولدِ والشريك، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلقَ كلامًا فيقول: هذا من عند الله أو يبدل بعضَ آياتِه تعالى ببعض كما تجوّزون ذلك في شأني، وكذلك مَن كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلمُ من كل ظالم {إِنَّهُ} الضمير للشأن وقع اسمًا لإن والخبرُ ما يعقُبه من الجملة، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن ذكره، وفائدةُ تصديرِها به الإيذانُ بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإن الضميرَ لا يُفهم منه من أول الأمرِ إلا شأنٌ مبْهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقبًا لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه عليه فضلُ تمكنٍ، فكأنه قيل: إن الشأنَ هذا أي {لاَ يُفْلِحُ المجرمون} أي لا ينجُون من محذور ولا يظفَرون بمطلوب، والمرادُ جنسُ المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجًا أوليًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ} استفهام انكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفى الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفس المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك.
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، وزيادة {كَذِبًا} مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنًا وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحًا مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلامًا فيقول: هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل: المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم: إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قلبها أيضًا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكًا وان له ولدا وكذبتم نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} [يونس: 13] الخ على أن يكون قوله تعالى: {ثُمَّ جعلناكم خلائف} [يونس: 14] وقوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} [يونس: 15] إلى هنا اعلامًا بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل: وجه تعلقها بمت تقدم أنهم إنما سألوه صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل: إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقًا إلى الذهن السليم {أَنَّهُ} أي الشأن {لاَ يُفْلِحُ المجرمون} أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون بمطلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجًا أوليًا، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} استفهام إنكاري معناه الجحد. أي: لا أحد أظلم ممن تقوَّل على الله تعالى، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه، أو كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام.
{إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أي: لا ينجون من محذور، ولا يظفرون بمطلوب، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: من الآية 93]، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي، وعدَّه صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.
وقد ذكر أن عَمْرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب- وكان صديقًا له في الجاهلية، وكان عَمْرو لم يسلم بعد- فقال له مسيلمة: ويحك يا عَمْرو! وماذا أنزل على صاحبكم- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرؤون سورة عظيمة قصيرة. فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ} الخ [العصر: 1- 3]، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل عليَّ مثله! فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر.. إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عَمْرو؟ فقال له عَمْرو: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب.
وقال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل منه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
قال: فكان أول ما سمعته يقول: «أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» قال حسان:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تأتيك بالخبر

اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ} لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} أي أشركوا إلى قوله: {لننظر كيف تعملون} [يونس: 13، 14] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم: {ائت بقرآن غير هذا أو بدّله} [يونس: 15].
وفي ذلك أيضًا توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافًا بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا: {ائت بقرآن غير هذا} [يونس: 15]، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فُرع عليه أن المفتري على الله كذبًا والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وُجد انصبابه على الخصم وحده.
والتفريع صالح للمعنيين، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن.
ومحل (أو) على الوجهين هو التقسيم، وهو إما تقسم أحوال، وإما تقسم أنواع.
والاستفهام إنكاري.
والظلم: هنا بمعنى الاعتداء.
وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته.
وجملة: {إنه لا يفلح المجرمون} تذييل، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيَّل (بفتح التحتية) فيقتضي أن أولئك مجرمون، وأنهم لا يفلحون.
والفلاح تقدم في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} في سورة [البقرة: 5].
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين.
وافتتاح الجملة بضمير الشأن لقصد الاهتمام بمضمونها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ}
وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: أأكذب على الله؟ إذا كنت لم أكذب عليكم أنتم في أموري معكم وفي الأمور التي جرَّبتموها، أفأكذب على الله؟! إن الذي يكذب في أول حياته من المعقول أن يكذب في الكِبَر، وإذا لم أكذب علكيم أنتم، فهل أكذب على الله؟
وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير، في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة، فأنا الآن لا أستطيع الكذب. فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك، فأنا لا أظلم نفسي وأتهمها بالكذب، فتصبحون أنتم المكذبين؛ لأنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن الله، ولو أنني قلت: إنه من عند نفسي لكان من المنطق أن تُكذِّبوا ذلك؛ لأنه شرف يُدَّعى. ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم.
وقول الحق: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله سبحانه كذبًا؛ لأن الكاذب إنما يكذب ليدلِّس على من أمامه، فهل يكذب أحد على من يعلم الأمور على حقيقتها؟ لا أحد بقادر على ذلك. ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم، لكن الأظلم منه هو من يكذب على الله سبحانه.
والافتراء كذب متعمد، فمن الجائز أن يقول الإنسان قضية يعتقدها، لكنها ليست واقعًا، لكنه اعتقد أنها واقعة بإخبار من يثق به، ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة، وهذا كذب صحيح، لكنه غير متعمد، أما الافتراء فهو كذب متعمد.
ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلام الخبري؛ قسموه إلى: خبر وإنشاء، والخبر يقال لقائله: صدقت أو كذبت، فإن كان الكلام يناسب الواقع فهو صدق، وإن كان الكلام لا يناسب الواقع فهو كذب.
وقول الحق: {افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلتم إنني ادعيت أن الكلام من عن الله، وهو ليس من عند الله. فهذا يعني أن الكلام كذب وهو من عندي أنا، فما موقف من يكَذب بآيات الله؟
إن الكذب من عندكم أنتم، فإن كنتم تكذبونني وتدَّعون أني أقول إن هذا من الله، وهو ليس من الله، وتتمادون وتُكذِّبون بالآيات وتقولون هي من عندك، وهي ليست من عندي، بل من عند الله؛ فالإثم عليكم.
والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل، وإما من ناحية المستمع، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم عدالة التوزيع في أكثر من موقع، مثلما يأتي القول الحق مبيِّنًا أدب النبوة:
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وليس هناك أدب في العرض أكثر من هذا، فيبين أن قضيته صلى الله عليه وسلم وقضيتهم لا تلتقيان أبدًا، واحدة منهما صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه.
وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وفي ذلك طلب لأن يعرضوا الأمر على عقولهم؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى، وأيهما هي الضلال.
وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25].
أي: كل واحدة سيُسأل عن عمله، فجريمتك لن أسأل أنا عنها، وجريمتي لا تُسأل أنت عنها. ونسب الإجرام لجهته ولم يقل: قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تجرمون وشاء ذلك ليرتقي في الجدل، فاختار الأسلوب الذي يُهذِّب، لا ليهيِّج الخصم؛ فيعاند، وهذا من الحكمة؛ حتى لا يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بلا طائل.
وهنا يقول الحق سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} فإذا كان الظلم من جهتي؛ فسوف يحاسبني الله عليه، وإن كان من جهتكم؛ فاعلموا قول الحق سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} ولم يحدد من المجرم، وترك الحكم للسامع.
كما تقول لإنسان له معك خلاف: سأعرض عليك القضية واحكم أنت، وساعة تفوضه في الحكم؛ فلن يصل إلا إلى ما تريد. ولو لم يكن الأمر كذلك لما عرضت الأمر عليه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
الْكَذِبُ في الشرع قبيحٌ، وإذا كان على الله فهو أقبح.
ومِنَ المْفتَرين على الله: الذين يُظْهِرون من الأحوال ما ليسوا فيه صادقين، وجزاؤهُم أَنْ يُحْرَمُوا ذلك أبدًا، فلا يَصلِون إلى شيء. اهـ.